فصل: باب الشُّرُوطِ فِى الْبُيُوعِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الشُّرُوطِ

باب مَا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى الإسْلامِ وَالأحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ

- فيه‏:‏ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلا ذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلا رَدَّهُ فِى تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَجَاءَتِ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، وَهِىَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ‏:‏ ‏(‏إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏‏.‏

قَالَ عُرْوَةُ‏:‏ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ قَدْ بَايَعْتُكِ كَلامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِى الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلا بِقَوْلِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر‏:‏ ‏(‏بَايَعْتُ النبى صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَطَ عَلَىَّ‏:‏ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ‏.‏

وقال مرة‏:‏ بَايَعْتُ النبى صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الشروط الجائزة فى الإسلام والأحكام هى الشروط الموافقة لكتاب الله وسنة ورسوله، وشروط المبايعة هى التزام الفرائض والنصيحة للمؤمنين وما فى آية الممتحنة مما ألزمه الله عز وجل المؤمنات فى الآية أن‏)‏ لا يسرقن ولا يزنين‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ إلى آخر الآية‏.‏

فاختلف العلماء فى صلح المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلمًا، فقال قوم‏:‏ لا يجوز هذا وهو منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا برئ من كل مسلم أقام مع مشرك فى دار الحرب لا تراءى نارهما‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين؛ إذ كان النبى صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن أقام معهم فى دار الحرب‏.‏

وأجمع المسلمون أن هجرة دار الحرب فريضة على الرجال والنساء وذلك الذى بقى من فرض الهجرة‏.‏

هذا قول الكوفيين، وقول أصحاب مالك‏.‏

ذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون قال‏:‏ إذا اشترط أهل الحرب فى الصلح رد من أسلم منهم لم ينبغ أن يعطوا ذلك، فإن جهل معطيهم ذلك لم يوف لهم بالشرط؛ لأنه خلاف سنة الإسلام، وفيه إباحة حرمته‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ هذا الحكم فى الرجال غير منسوخ، ليس لأحد هذا العقد إلا للخليفة أو لرجل يأمره، فمن عقده غير الخليفة فهو مردود، وقول الشافعى‏:‏ وهذا الحكم فى الرجال غير منسوخ؛ يدل أن مذهبه فى النساء منسوخ، وحجته فى حديث مروان والمسور قوله‏:‏ ‏(‏وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ممن خرج إلى النبى صلى الله عليه وسلم فجاء أهلها إلى النبى صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرجعها إليهم فلم يرجعها لما نزل فيهن ورد أبا جندل‏.‏

وذكر معمر عن الزهرى قال‏:‏ نزلت الآية على النبى صلى الله عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية، وكان صالحهم على أن من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاء النساء نزلت عليه الآية وأمر أن يرد الصداق إلى أزواجهن فحكم النبى صلى الله عليه وسلم فى النساء بحكم الله فى القرآن وبين المعنى فى ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ فأخبر تعالى أن وطء المؤمنات حرام على الكفار، فلذلك لم ترد إليهم النساء‏.‏

وقد روى فى هذا الحديث ما يدل أن الشرط إنما وقع فى صلح أهل مكة أن يرد الرجال خاصة ولم يقع على النساء وهو قول سهيل‏:‏ ‏(‏وعلى أنه لا يأتيك منا رجل إلا رددته إلينا‏)‏ فلم يدخل فى ذلك النساء‏.‏

ذكره البخارى فى باب الشروط فى الجهاد بعد هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فامتعضوا‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ معض الرجل وامتعض‏:‏ إذا غضب للشىء‏.‏

وأمعضته ومعضته أنا‏:‏ إذا أنزلت به ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وهى عاتق‏)‏ قال ابن دريد‏:‏ عتقت الجارية‏:‏ صارت عاتقًا، وذلك إذا أوشكت البلوغ‏.‏

وقد تقدم تفسير العواتق فى أبواب صلاة العيدين‏.‏

باب إِذَا بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الثَّمَرَةَ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ بَاعَ نَخْلا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ‏)‏‏.‏

قد تقدم فى كتاب البيوع‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الْبُيُوعِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ ‏(‏أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ، ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ، وَيَكُونَ وَلاؤُكِ لِى، فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَبَوْا، وَقَالُوا‏:‏ إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلاؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا، ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ‏)‏‏.‏

وقد تقدم فى البيوع‏.‏

ونذكر هاهنا منه طرفًا‏.‏

وروى عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال‏:‏ وجدت فى كتاب جدى قال‏:‏ أتيت مكة فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبى ليلى وابن شبرمة، فأتيت أبا حنيفة فقلت له‏:‏ ما تقول فى رجل باع بيعًا واشترط شرطًا‏؟‏ قال‏:‏ البيع باطل والشرط باطل‏.‏

فأتيت ابن أبى ليلى فسألته فقال‏:‏ إن البيع جائز والشرط باطل‏.‏

فأتيت ابن شبرمة فسألته، فقال‏:‏ البيع جائز والشرط جائز‏.‏

فقلت‏:‏ سبحان الله ثلاثة من فقهاء الكوفة اختلفوا فى مسألة‏.‏

فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما فقال‏:‏ لا أدرى ما قالا، حدثنى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط‏)‏ فأتيت ابن أبى ليلى فأخبرته بقولهما فقال‏:‏ لا أدرى ما قالا، حدثنى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اشترى بريرة واشترطى لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق‏)‏ فأجاز البيع وأبطل الشرط‏.‏

فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما فقال‏:‏ لا أدرى ما قالا، حدثنى مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏(‏اشترى منى النبى صلى الله عليه وسلم ناقة فاشترطت حملانى‏)‏ فأجاز البيع والشرط‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذه الثلاث فتاوى جائزة كلها فى مواضعها، فلا يتعدى كل واحد منها ما وضع له ولها أحكام مختلفة على حسب تأويل الأحاديث الثلاثة، وهؤلاء الفقهاء حملوا تأويلها على العموم وظنوا أن كل واحد من هؤلاء الأحاديث عامل فى السنة كلها، وليس كذلك، ولكل واحد موضع لا يتعداه، وقد تقدم فى كتاب البيوع‏.‏

باب إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ

- فيه‏:‏ جَابِرٌ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَمَرَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَهُ، فَدَعَا لَهُ، فَسَارَ سيرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ، قُلْتُ‏:‏ لا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ، فَبِعْتُهُ، فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إِلَى أَهْلِى، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُ بِالْجَمَلِ، وَنَقَدَنِى ثَمَنَهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِى‏:‏ وَقَالَ‏:‏ مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَالُكَ وَقَالَ شُعْبَةُ،‏:‏ أَفْقَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ‏:‏ فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِى فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى آتِى الْمَدِينَةَ‏.‏

وقال عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ‏:‏ وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

وقال ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، شَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

وقال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ‏.‏

وقال أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ‏:‏ الاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِى‏.‏

وقال ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَهَكَذَا تَكُونُ أوَقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ‏.‏

عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ جَابِرٍ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ أوَقِيَّةُ ذَهَبٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ مِائَتَىْ دِرْهَمٍ‏.‏

وقال دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، أَحْسِبُهُ قَالَ‏:‏ بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ‏.‏

وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ‏:‏ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا‏.‏

وَقَوْلُ الشَّعْبِىِّ‏:‏ بِوَقِيَّةٍ أَكْثَرُ‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث لاختلاف ألفاظه، فمرة روى بلفظ الهبة والإفقار ومرة روى بلفظ الاستثناء والاشتراط، واختلاف اللفظ يوجب اختلاف المعانى عند الفقهاء إلا أن البخارى غلب لفظ الاشتراط وقضى له على غيره بالصحة، وممن قال بذلك من الفقهاء‏:‏ الأوزاعى وأحمد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزى، وأهل الحديث قالوا‏:‏ لا بأس أن يبيع الرجل الدابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، والبيع فى ذلك جائز والشرط ثابت‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن كان الاشتراط للركوب إلى مكان قريب مثل اليوم واليومين والثلاثة فلا بأس بذلك، وإن كان بعيدًا فلا خبر فيه على ظاهر حديث جابر أنه باع الجمل من النبى صلى الله عليه وسلم واستثنى ركوبه إلى المدينة، وكان بينه وبينها ثلاثة أيام‏.‏

وقال مالك‏:‏ ولا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا اشترط ركوب الدابة أو خدمة العبد أو سكنى الدار فالبيع فاسد‏.‏

هذا قول الكوفيين والشافعى‏.‏

وقالوا‏:‏ قد ورد حديث جابر بلفظ الإفقار والهبة، وهو أولى من حديث الاشتراط‏.‏

قالوا‏:‏ ولا يخلو شرط ركوب البائع أن يكون الركوب مستحقا من مال المشترى، فيكون البيع فاسدًا؛ لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشترى، أو يكون استثناؤه الركوب أوجب بقاء الركوب فى ملك البائع، فهذا محال لأن المشترى لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت فى ملكه، وكذلك سكنى الدار ونحوها‏.‏

واحتج عليهم من خالفهم، فقال‏:‏ إنه لا خلاف بيننا أنه لو باع نخلا عليها ثمر قد أبر وبقاها لنفسه أنه جائز، والثمرة تبقى على نخل المبتاع إلى وقت جدادها، وقد باع النخل واستثنى منفعة تلك الثمرة لنفسه، وجاز ذلك فكذلك فى مسألتنا، وقد أجمعوا على جواز الفرد اليسير فى البيوع، وقد أجازه النبى صلى الله عليه وسلم وروى عن عثمان أنه باع دارًا واشترط لنفسه سكناها مدة معلومة، وعثمان إمام فعل ذلك بين الصحابة، فلم ينكره أحد‏.‏

فإن قالوا‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط‏.‏

قيل‏:‏ الذى نهى عن ذلك هو الذى جوز البيع والشرط فى حديث جابر، فدل أن الخبر مخصوص؛ لأن من الشروط ما يجوز ومنها ما لا يجوز، وقد قال‏:‏ ‏(‏المؤمنون عند شروطهم‏)‏ قال ابن المنذر‏:‏ وحديث جابر مستغنى به عن قول كل أحد، وإنما نهى أن يستثنى مجهولا من معلوم، فأما إذا علم المستثنى فذلك جائز، ومن خالف حديث جابر مستثنى برأيه فيما لا سنة فيه، كالدار يبيعها الرجل وقد أكراها وقتًا معلومًا أن سكناها للمكترى على المشترى إلى انقضاء المدة، فإذا جاز هذا ولا سنة فيه فالسنة الثابتة أولى أن نستنها‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومن روى ‏(‏لك ظهره إلى المدينة‏)‏ يدل على أنه تفضل عليه بركوبه إلى المدينة، ولم يكن من اشتراط جابر على النبى صلى الله عليه وسلم فى أصل البيع‏.‏

ويؤيد ذلك رواية من روى‏:‏ فأفقره ظهره إلى المدينة‏)‏ والإفتقار لا يكون إلا تفضلا، فيكون معنى رواية من روى‏:‏ ‏(‏وشرط له ظهره إلى المدينة‏)‏ شرط تفضل؛ لأن القصة كلها جرت على جهة التفضل من النبى صلى الله عليه وسلم والرفق بجابر؛ لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزيادة، وكيف يشرط عليه جابر ركوبه وحين قال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعنيه‏.‏

قال له جابر‏:‏ هو لك يا رسول الله بلا ثمن‏)‏ فلم يقبله النبى صلى الله عليه وسلم إلا بثمن رفقًا به‏.‏

ذكره البخارى فى كتاب الوكالات فى باب إذا وكل رجلا أن يعطى شيئًا فلم يبين كم يعطى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما اختلافهم فى ثمن الجمل فلا حاجة بنا إلى علم مقداره؛ لأنه لا يجوز بيعه بالقليل والكثير، وإنما الغرض فى الحديث نقل العقد وأنه كان بثمن، فلذلك لم يعتبر مقداره‏.‏

الإفقار فى الإبل‏:‏ أن يعار للركوب والحمل عليها‏.‏

عن الخطابى‏:‏ وفى كتاب العين‏:‏ أفقرت الرجل الدابة إذا أعرته ظهرها‏.‏

والفقار‏:‏ عظم الصلب‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الْمُعَامَلَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الأنْصَارُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ‏:‏ لا، فَقَالَ‏:‏ تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنُشْرِكْكُمْ فِى الثَّمَرَةِ، قَالُوا‏:‏ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ أراد الأنصار مقاسمة المهاجرين للإخاء الذى آخى بينهما النبى صلى الله عليه وسلم، وهذه المعاملة هى المساقاة بعينها، وهى خارجة عن معانى البيوع؛ لأنه لا يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وجاز بيعها فى المساقاة قبل أن تخلق وتظهر، وأما خروجها عن الإجارة، فإنه لا تجوز الإجارة المجهولة، وفى المساقاة لا يعلم مقدار ما يخرج النخيل من الثمر، وربما لا يخرج شيئًا، وإنما جازت المساقاة بالسنة، فهى مخصوصة فى نفسها لا تتعدى إلى غيرها مما يشبه معناها، فلا يجوز من الشروط فى معاملاتهم إلا ما كان فى كتاب الله أو سنة نبيه- صلىالله عليه وسلم-‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَلَكَ مَا شَرَطْتَ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِى مُصَاهَرَتِهِ، فَأَحْسَنَ، وَقَالَ‏:‏ حَدَّثَنِى فَصَدَقَنِى وَوَعَدَنِى فَوَفَى لِى‏.‏

- فيه عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ‏:‏ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ‏)‏‏.‏

هذا الباب مكرر فى كتاب النكاح وهو موضعه وسأذكر مذاهب العلماء فى شروط النكاح إن شاء الله‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الْمُزَارَعَةِ

- فيه‏:‏ رَافِعَ‏:‏ كُنَّا أَكْثَرَ الأنْصَارِ حَقْلا، فَكُنَّا نُكْرِى الأرْضَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنِ الْوَرِقِ‏.‏

تقدم معنى حديث رافع واختلاف مساقه فى كتاب المزارعة‏.‏

باب مَا لا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى النِّكَاحِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا‏)‏‏.‏

هذا فى كتاب النكاح‏.‏

باب الشُّرُوطِ الَّتِى لا تَحِلُّ فِى الْحُدُودِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ‏:‏ حَدِيث العَسِيف‏:‏ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏

فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلى ابنى الرَّجم، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ الرَّجْمَ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَقَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ كل شرط وقع فى رفع حد من حدود الله فلا يجوز منه شىء، ولا يجوز فيه صلح ولا فدية، وذلك مردود كله، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الصلح فى باب إذا اصطلحوا على جور فهو مردود، وسيأتى فى كتاب الرجم فى غير موضع إن شاء الله، وأتقصى ما للعلماء فى معانيه بحول الله وقوته‏.‏

باب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِىَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُعْتَقَ

- فيه‏:‏ حديث بَرِيرَةُ، أَنَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم قال لعَائِشَةَ‏:‏ اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فإن الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ‏.‏

وترجم له باب المكاتب ومالا يحل من الشروط التى تخالف كتاب الله وقد تقدم فى كتاب المكاتب‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الطَّلاقِ

وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ‏:‏ إِنْ بَدَأ بِالطَّلاقِ أَوْ أَخَّرَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ‏.‏

- فيه أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ نَهَى النبى صلى الله عليه وسلم أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا‏.‏

أما قول ابن المسيب وغيره‏:‏ إن بدأ بالطلاق أو أخر فهو أحق بشرطه فمعناه أن يقول‏:‏ أنت طالق إن دخلت الدار أو إن دخلت الدار فأنت طالق، فالطلاق يلزمه عند جماعة الفقهاء، وإنما يروى الخلاف فى ذلك عن شريح والنخعى قالا‏:‏ إذا بدأ بالطلاق قبل يمينه فإنه يلزمه الطلاق وإن برت يمينه، وإن بدأ باليمين قبل الطلاق فإنه لا يلزمه الطلاق إذا برت‏.‏

وأما الشروط فى الطلاق فهى عندهم كالشروط فى النكاح، فمنهم من كرهها ومنهم من أجازها إذا وقعت بيمين وسيأتى اختلاف العلماء فى كتاب النكاح‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشترط المرأة طلاق اختها‏)‏ حجة لمن أجاز الشروط المكروهة؛ لأنه لو لم تكن هذه الشروط عاملة إذا وقعت لم يكن لنهيه عن اشتراط المرأة طلاق أختها معنى، ولكان اشتراطها ذلك كلا اشتراط، فكذلك ما شابه ذلك من الشروط، وإن كانت مكروهة فهى لازمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج‏)‏‏.‏

باب الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ

- فيه ابْنِ عَبَّاس، عَنْ أُبَىُّ، قَالَ‏:‏ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏:‏ ‏(‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 33‏]‏ كَانَتِ الأولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا‏.‏

وإنما أراد البخارى بهذا الباب والله أعلم ليدل على أن ما يقع بين الناس فى محاوراتهم مما يكثر بينهم، فإن الشرط بالقول يغنى فى ذلك عن الشرط بالكتاب والإشهاد عليه، ألا ترى أن موسى صلى الله عليه وسلم لم يشهد أحدًا على نفسه حين قال للخضر‏:‏ ‏(‏ستجدنى إن شاء الله صابرًا ولا أعصى لك أمرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 69‏]‏ وكذلك الخضر حين شرط على موسى ألا يسأله عن شىء حتى يحدث له منه ذكرًا؛ لم يكتب بذلك كتابًا ولا أشهد شهودًا، وإنما يجب الإشهاد والكتاب فى الشروط التى يعم المسلمين نفعها ويخاف أن يكون فى انتقاضها والرجوع فيها خرم وفساد، وكذلك ما كان فى معناها مما يخص بعض الناس، واحتيج فيها إلى الكتاب والإشهاد خوف ذلك، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب الصلح مع سهيل بن عمرو وأهل مكة ليكون حاجزًا للمشركين عن التناقض والرجوع فى شىء من الصلح وشاهدًا عليهم إن هموا بذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن النسيان لا يعد ولا يؤاخذ به‏.‏

وفيه دليل‏:‏ أنه يجب الرفق بالعلماء، وألا يهجم عليهم بالسؤال عن معانى أقوالهم فى كل وقت إلا عند انبساط نفوسهم وانشراح صدورهم، لا سيما إذا شرط ذلك العالم على المتعلم‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجوز سؤال العالم عن معانى أفعال النبى صلى الله عليه وسلم وأقواله؛ لأن موسى سأل الخضر عن معنى قتل الغلام وخرق السفينة وإقامة الجدار، فأخبره بعلل أفعاله، ووجه الحكمة فيها، وإنما كان شرط ألا يسأله عن شىء حتى يحدث له منه ذكرًا والله أعلم أنه أراد أن يتأدب عليه فى تعليمه، ويأخذ عفوه فيه حتى ينبسط إلى الشرح والتفسير، ففى إخباره بتأويل ذلك دليل على أن أفعال الأنبياء وأقوالهم ينبغى أن تعرف معانيها ووجه ما صنعت له، والله الموافق للصواب‏.‏

باب من اسشْتَرَطَ فِى الْمُزَارَعَةِ إِذَا شىءتُ أَخْرَجْتُكَ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ‏:‏ نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ، فَعُدِىَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا، وَتُهْمَتُنَا وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، أَتَاهُ أَحَدُ بَنِى أَبِى الْحُقَيْقِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا، وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَعَامَلَنَا عَلَى الأمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ أَظَنَنْتَ أَنِّى نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ، تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِى الْقَاسِمِ، قَالَ‏:‏ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَأَجْلاهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالا وَإِبِلا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وقد تقدم فى كتاب المزارعة فى باب‏:‏ إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله‏.‏

وهذا الحديث يدل أن عمر إنما أخرجهم لعداوتهم للمسلمين ونصبهم الغوائل لهم اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم فى إجلائه بنى النضير، وأمره لهم ببيع أرضهم حين أرادوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يلقوا عليه حجرًا مع أنه بلغه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عند موته‏:‏ ‏(‏لا يبقين دينان بأرض العرب‏)‏ فرأى عمر إنفاذ وصية النبى صلى الله عليه وسلم عندما بدا منهم من فدعهم لابنه وخشى منهم أكثر من هذا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه دليل على أن العداوة توجب المطالبة بالجنايات كما طالبهم عمر بفدعهم ابنه ورجح ذلك بأن قال‏:‏ ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة، فأخرجهم من الأرض على ما كان أوصى به النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما ترك عمر مطالبة اليهود بالقصاص فى فدع ابنه؛ لأنه فدع ليلا وهو نائم، فلم يعرف ابن عمر أشخاص من فدعه، فأشكل الأمر كما أشكلت قصة عبد الله بن سهل حين وداه صلى الله عليه وسلم من عند نفسه‏.‏

وفيه‏:‏ أن أفعال النبى صلى الله عليه وسلم وأقواله محمولة على الحقيقة على وجهها، لا على الهزل حتى يقوم دليل المجاز والتعريض، وإنما أقر النبى صلى الله عليه وسلم يهود خيبر على أن سلمهم فى أنفسهم ولا حق لهم فى الأرض، واستأجرهم على المساقاة ولهم شطر الثمرة، فلذلك أعطاهم عمر قيمة شطر الثمر من إبل وأقتاب وحبال يستقلون بها؛ إذ لم يكن لهم فى رقبة الأرض شىء‏.‏

وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث أن المزارع إذا كرهه رب الأرض بجناية بدت منه أن له أن يخرجه بعد أن يبتدئ فى العمل ويعطيه قيمة عمله ونصيبه، كما فعل عمر‏.‏

وقال غيره‏:‏ إنما يجوز إخراج المساقى والمزارع عند رءوس الأعوام وتمام الحصاد والجداد‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ مع الناس بالقول

- فيه‏:‏ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ، قَالا‏:‏ ‏(‏خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ‏:‏ حَلْ، حَلْ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا‏:‏ خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَا خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ زَجَرَهَا، فَوَثَبَتْ، قَالَ‏:‏ فَعَدَلَ عَنْهُمْ، حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ، فَقَالَ بُدَيْلٌ‏:‏ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ‏:‏ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ‏:‏ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ، قَوْلا، فَإِنْ شىءتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ‏:‏ لا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ‏:‏ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ، يَقُولُ‏:‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ‏:‏ أَىْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى، قَالُوا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِيهِ، قَالُوا‏:‏ ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ أَىْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الأخْرَى فَإِنِّى وَاللَّهِ لأرَى وُجُوهًا، وَإِنِّى لأرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ‏:‏ امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَنْ ذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ‏:‏ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأجَبْتُكَ، قَالَ‏:‏ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ‏:‏ أَىْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ‏؟‏ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَمَّا الإسْلامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ، قَالَ‏:‏ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَىْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ، وَاللَّهِ، إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ، مِنْ بَنِى كِنَانَةَ‏:‏ دَعُونِى آتِيهِ، فَقَالُوا‏:‏ ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هَذَا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ مِكْرَزُ ابْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ‏:‏ دَعُونِى آتِيهِ، فَقَالُوا‏:‏ ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ؛ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو‏.‏

وقال مَعْمَرٌ‏:‏ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ قَدْ سَهُلَ لَكُمْ، مِنْ أَمْرِكُمْ‏.‏

قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ‏:‏ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ‏:‏ هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏)‏، قَالَ سُهَيْلٌ‏:‏ أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ‏:‏ وَاللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلا‏:‏ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اكْتُبْ ‏(‏بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ‏:‏ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ ‏(‏مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ‏)‏ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى، اكْتُبْ ‏(‏مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ‏)‏‏.‏

قَالَ الزُّهْرِىُّ‏:‏ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ‏:‏ لا يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ‏:‏ وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ‏:‏ وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ‏؟‏ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ‏:‏ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ، قَالَ‏:‏ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فَأَجِزْهُ لِى، قَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ‏:‏ بَلَى، فَافْعَلْ، قَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ‏:‏ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ‏:‏ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا‏؟‏ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ‏؟‏ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ، قَالَ‏:‏ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ‏:‏ بَلَى، قُلْتُ‏:‏ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى، قُلْتُ‏:‏ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِى، قُلْتُ‏:‏ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ، فَنَطُوفُ بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَالَ‏:‏ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى، قُلْتُ‏:‏ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى، قُلْتُ‏:‏ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ‏:‏ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ‏.‏

قَالَ الزُّهْرِىُّ‏:‏ قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالا، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ‏:‏ قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا، قَالَ‏:‏ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ وَالأخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ، رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا‏:‏ الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ، لأحَدِ الرَّجُلَيْنِ‏:‏ وَاللَّهِ إِنِّى لأرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ‏:‏ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ‏:‏ أَرِنِى، أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ حِينَ رَآهُ لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى، وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ‏:‏ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلا لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 24‏]‏ إِلَى‏)‏ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏ وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِ ‏(‏بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏)‏ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ‏)‏‏.‏

فَأَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ، وَبَلَغْنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لا يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ‏:‏ قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِىِّ، فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ، وَتَزَوَّجَ الأخْرَى أَبُو جَهْمٍ، فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 11‏]‏ وَالْعَقْبُ‏:‏ مَا يُؤَدِّى الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللائِى هَاجَرْنَ، وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا، وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِىَّ، قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِى الْمُدَّةِ، فَكَتَبَ الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذا الحديث من الفقه جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم إذا رأى لذلك الإمام وجهًا‏.‏

وفيه‏:‏ كتاب الشروط التى تنعقد بين المسلمين والمشركين والإشهاد عليها؛ ليكون ذلك شاهدًا على من رام نقض ذلك والرجوع فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه‏:‏ الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم وطلب غرتهم إذا بلغتهم الدعوة‏.‏

وفيه‏:‏ جواز التنكيب على الطريق بالجيوش وإن كان فى ذلك مشقة‏.‏

وفيه‏:‏ بركة التيامن فى الأمور كلها‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم فى الناقة‏:‏ ‏(‏ما خلأت وما هو لها بخلق‏)‏ فالخلأ فى النوق مثل الحران فى الخيل‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على أن الأخلاق المعروفة من الحيوان كلها يحكم بها على الطارئ الشاذ منها، وكذلك فى الناس إذا نسب إنسان إلى غير خلقه المعلوم فى هفوة كانت منه لم يحكم بها‏.‏

وفيه‏:‏ أن ما عرض للسلطان وقواد الجيوش وجميع الناس مما هو خارج عن العادة يجب عليهم أن يتأملوه وينظروا شبهه فى قضاء الله فى الأمم الخالية فيتمثلوا صواب الخير فيه، ويعلموا أن ذلك مثل ضرب لهم ونبهوا عليه، كما امتثله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمر ناقته وبروكها بقصة الفيل؛ لأنها كانت إذا وجهت إلى مكة بركت وإذا صرفت عنها مشت، كما دار الفيل، وهذا خارج عن العادة، فعلم أن الله صرفها عن مكة كما صرف الفيل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها‏)‏ يريد بذلك موافقة الله فى تعظيم الحرمات؛ لأنه فهم عن الله إبلاغ الأعذار إلى أهل مكة فأبقى عليهم لما كان سبق لهم فى علمه أنهم سيدخلون فى دين الله أفواجًا‏.‏

وفيه‏:‏ علامات النبوة، وبركة النبى صلى الله عليه وسلم، وبركة السلاح المحمولة فى سبيل الله، ونبع الماء من السهم، فإنما قدم النبى صلى الله عليه وسلم إلى مكة غير مستأمن مما كان بينه وبين أهل مكة من الحرب والمناصبة والعداوة ولا أخذ إذنهم فى ذلك؛ لأنه جرى على العادة من أن مكة غير ممنوعة من الحجاج والمعتمرين، فلما علم الله أنهم صادوه ومقاتلوه حبس الناقة عن مكة كما حبس الفيل تنبيهًا له على الإبقاء عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن شاء قريشًا قد نهكتهم الحرب‏)‏ على وجه بذل النصيحة للقرابة التى كانت بينهم، فقال لهم‏:‏ ‏(‏إن شئتم ماددتكم‏)‏ أى‏:‏ صالحتكم مدة تستجمون فيها إن أردتم القتال وتدعونى مع الناس، يعنى‏:‏ طوائف العرب فإن ظهرت عليهم دخلتم فيما دخلوا فيه، وإنما نصحهم النبى صلى الله عليه وسلم لما فهم عن الله فى حبس الناقة أنهم سيدخلون فى الإسلام، فأراد أن يجعل بينهم مدة يقلب الله فيها قلوبهم، وفى لين قول بديل وعروة لقريش دليل على أنهم كانوا أهل إصغاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وميل إليه كما قال فى الحديث‏.‏

وقول عروة للنبى‏:‏ ‏(‏أرأيت إن استأصلت قومك‏)‏ دليل على أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يومئذ فى جمع يخاف منه عروة على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم‏.‏

وخوف عروة إن دارت الدائرة فى الحرب عليه أن يفر عنه من تبعه من أخلاط الناس؛ لأن القبائل إذا كانت متميزة لم يفر بعضها عن بعض حتى إذا كانت أخلاطًا فر كل واحد ولم ير على نفسه عارًا، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أن الذى عقده الله بين قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم؛ فلذلك قال له أبو بكر‏:‏ ‏(‏امصص بظر اللات‏)‏ وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لم أجزك بها‏)‏، يدل على أن الأيادى تجب على أهل الوفاء مجازاتها والمعاوضة عليها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فكلما أخذ بلحيته‏)‏ يعنى‏:‏ على ما جرت به عادة العرب عند مخاطبتها لرؤسائها فإنهم يمسون لحاهم ويصافحونهم، يريدون التحبب إليهم والتبرك بتناولهم، وقد حكى عن بعض العجم أنهم يفعلون ذلك أيضًا، فلما أكثر عروة من فعله ذلك رأى المغيرة أن منزلة النبوة مباينة لمنازل الناس، وأنها لا تحتمل هذا العمل لما يلزم من توقير النبى صلى الله عليه وسلم وإجلاله‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن من جالس إمامًا فرأى أحدًا جفا عليه أنه يلزمه تغيير ذلك ويصون الإمام عن الكلام فيه‏.‏

وفيه‏:‏ جواز قيام الناس على رأس الإمام بالسيوف إذا كان ذلك ترهيبًا للعدو ومخافة الغدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ألست أسعى فى غدرتك‏)‏ يريد أن عروة كان يصلح على قوم المغيرة ويمنع منهم أهل القتيل الذى قتله المغيرة؛ لأن أهل المغيرة بقوا بعده فى دار الكفر‏.‏

وقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما المال فلست منه فى شىء‏)‏ يعنى‏:‏ فى حل؛ لأنه علم أن أصله غصب، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحل أخذها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحبًا لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه، فسفك الدماء وأخذ المال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور‏.‏

وتدلكهم بنخامته صلى الله عليه وسلم على وجه التبرك ورجاء نفعها فى أعضائهم‏.‏

وفيه‏:‏ طهارة النخامة بخلاف من جعلها تنجس الماء، وإنما أكثروا من ذلك بحضرة عدوه، وتزاحموه عليه؛ لأجل قوله‏:‏ ‏(‏إنى لأرى وجوهًا وأشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا عنك ويدعوك‏)‏ فأروه أنهم أشد اغتباطًا وتبركًا بأمره، وتثبتًا فى نصرته من القبائل التى تراعى الرحم بينهم‏.‏

وأمر النبى صلى الله عليه وسلم بإقامة البدن للرجل من أجل علمه بتعظيمه لها؛ ليخبر بذلك قومه، فيخلوا بينه وبين البيت‏.‏

وفيه‏:‏ التفاؤل من الاسم وغيره‏.‏

وقول سهيل‏:‏ ‏(‏ما نعرف الرحمن‏)‏ فإن العرب الله قد أخبر عنهم بذلك فى كتابه‏)‏ قالوا وما الرحمن‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ وفى يمين المسلمين‏:‏ ‏(‏والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ فيه من الفقه أن أصحاب السلطان يجب عليهم مراعاة أمره وعونه وعزة البارى التى بها عز السلطان‏.‏

وترك النبى صلى الله عليه وسلم إبرار قسمهم، وقد أمرنا بإبرار القسم، إنما هو مندوب إليه فيما يحسن ويجمل، وأما من حلف عليه فى أمر لا يحسن فى دين ولا مروءة فلا يجيب إليه كما لم يجب النبى صلى الله عليه وسلم إلى ما حلف عليه أصحابه؛ لأنه كان يئول إلى انخرام المقاضاة والصلح مع أن ما دعا إليه سهيل لم يكن إلحادًا فى أسمائه تعالى، وكذلك ما أباه سهيل من كتابة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلحاد فى الرسالة، فلذلك أجابه صلى الله عليه وسلم إلى ما دعاه إليه مع أنه لم يأنف سهيل من هذا، إلا أنه كان مساق العقد عن أهل مكة، وقد جاء فى بعض الطرق ‏(‏هذا ما قاضى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة‏)‏ فخشى أن ينعقد فى مقالهم الإقرار برسالته‏.‏

وقوله فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏وعلى أنه لا يأتيك منا رجل‏)‏ يدل أن المقاضاة إنما انعقدت على الرجال دون النساء، فليس فيه نسخ حكم النساء على هذه الرواية؛ لأن النساء لم يردهن كما رد الرجال من أجل أن الشرط إنما وقع برد الرجال خاصة ثم نزلت الآية فى أمر النساء حين هاجرن إلى النبى صلى الله عليه وسلم مثبتة لما تقدم من حكم ذلك وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الشروط‏.‏

وقول النبى صلى الله عليه وسلم لسهيل‏:‏ ‏(‏إنا لم نفض الكتاب بعد‏)‏ أراد أن يخلص أبا جندل وقد كان تم الصلح بالكلام والعقد قبل أن يكتب‏.‏

وفيه‏:‏ أن من عاقد وصالح على شىء بالكلام ثم لم يوف له به أنه بالخيار فى النقض‏.‏

وأما قول عمر وما قرر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنهم على الحق ‏(‏ولم نعطى الدنية فى ديننا‏)‏، أى نرد من استجار بنا من المسلمين إلى المشركين فقال له‏:‏ ‏(‏إنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست أعصيه‏)‏ تنبيهًا لعمر أنى إنما أفعل هذا من أجل ما أطلعنى الله عليه بحبس الناقة عن أهل مكة مما فى غيبه لهم من الإبلاغ فى الإعذار إليهم، ولست أفعل ذلك برأى، إنما أفعله بوحى من الله لقوله‏:‏ ‏(‏ولست أعصيه‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ جواز المعارضة فى العلم حتى تتبين المعانى‏.‏

وفيه‏:‏ أن الكلام محمول على العموم حتى يقوم عليه دليل الخصوص ألا ترى أن عمر حمل كلامه صلى الله عليه وسلم على الخصوص لأنه طالبه بدخول البيت فى ذلك العام فأخبره صلى الله عليه وسلم أنه لم يعده به فى ذلك العام، بل وعده وعدًا مطلقًا فى الدهر حتى وقع، فدل أن الكلام محمول على العموم حتى يأتى دليل الخصوص‏.‏

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنك آتيه‏)‏ يدل أن من حلف على فعل ولم يوقت وقتًا أن وقته أيام حياته‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فإن حلف بالطلاق ليفعلن كذا إلى وقت غير معلوم‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ لا يطأها حتى يفعل الذى حلف عليه فأيهما مات لم يرثه صاحبه‏.‏

هذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصرى والشعبى والنخعى، وأبى عبيد‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إن مات ورثته، وله وطؤها‏.‏

روى هذا عن عطاء، وقال يحيى بن سعيد‏:‏ ترثه إن مات‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن ماتت امرأته يرثها‏.‏

وقال الثورى‏:‏ إنما يقع الحنث بعد الموت، وبه قال أبو ثور‏.‏

وقال أبو ثور أيضًا‏:‏ إذا حلف ولم يوقت فهو على يمينه حتى يموت، ولا يقع حنث بعد الموت، فإذا مات لم يكن على شىء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا نظر‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ يضرب لهما أجل المؤلى أربعة أشهر‏.‏

روى هذا عن القاسم وسالم، وهو قول ربيعة ومالك والأوزاعى‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن قال‏:‏ أنت طالق ثلاثًا إن لم آت البصرة‏.‏

فماتت امرأته قبل أن يأتى البصرة فله الميراث ولا يضره ألا يأتى البصرة بعد؛ لأن امرأته ماتت قبل أن يحنث، ولو مات قبلها حنث وكان لها الميراث؛ لأنه فارق، ولأن الطلاق إنما وقع عليها قبل أن يموت بقليل فلها الميراث، ولو قال‏:‏ أنت طالق إن لم تأت البصرة أنت فماتت فليس له منها ميراث، وإن مات قبلها فلها الميراث ولا يضرها ألا تأتى البصرة‏.‏

وفيه قول سادس حكاه أبو عبيد عن بعض أهل النظر قال‏:‏ إن أخذ الحالف فى التأهب لما حلف عليه والسعى فيه حين تكلم باليمين حتى يكون متصلا بالبر وإلا فهو حانث عند ترك ذلك‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فى هذا الحديث دليل أنه من لم يحد ليمينه أجلا أنه على يمينه ولا يحنث إن وقف عن الفعل الذى حلف يفعله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول عمر‏:‏ ‏(‏فعملت لذلك أعمالا‏)‏ يعنى أنه كان يحض الناس على ألا يعطوا الدنية فى دينهم بإجابة سهيل إلى رد أبى جندل إليهم، يدل على ذلك إتيانه أبا بكر وقوله له مثل ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ فضل علم أبى بكر الصديق وجودة ذهنه، وحسن قريحته، وقوة نفسه؛ لأنه أجاب عمر بمثل ما أجابه به النبى صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا‏.‏

وأما توقف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم عن النحر والحلق فلمخالفتهم العادة التى كانوا عليها ألا ينحر أحد حتى يبلغ الهدى محله، ولا يحلق إلا بعد الطواف والسعى، حتى شاور النبى صلى الله عليه وسلم أم سلمة فأراه الله بركة المشورة، ففعل ما قالت، فاقتدى به أصحابه، وكذلك لو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع ما أمر به أصحابه من الحلاق والحل ما اختلف عليه اثنان، ففى هذه من الفقه أن الفعل أقوى من القول‏.‏

وفيه‏:‏ جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأى‏.‏

وأما إسلام النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بصير وأصحابه إلى رسل مكة فهو على ما انعقد فى الرجال، وأما قتل أبى بصير لأحد الرسل بعد أن أسلمه إليهم النبى صلى الله عليه وسلم فليس على النبى صلى الله عليه وسلم حراسة المشركين ممن يدفعه إليهم، ولا عليه القود ممن قتل فى الله وجاهد؛ لأن هذا لم يكن من شرطه، ولا طالب أولياء القتيل النبى صلى الله عليه وسلم بالقود من أبى بصير‏.‏

وقول أبى بصير للنبى‏:‏ ‏(‏قد أوفى الله ذمتك‏)‏ يعنى‏:‏ أنك قد رددتنى إليهم كما شرطت لهم، فلا تردنى الثانية، فلم يرض النبى صلى الله عليه وسلم إلا بما لا شك فيه من الوفاء، فسكت عنه النبى صلى الله عليه وسلم ونبهه على ما ينجو به من كفار قريش بتعريض عرض له به وذلك قوله‏:‏ ‏(‏لو كان له أحد‏)‏ يعنى‏:‏ من ينصره ويمنعه، ففهمها أبو بصير، وخرج إلى سيف البحر، وجعل يطلب غرة أهل مكة، وآذاهم حتى لحق به أبو جندل وجماعة، فرضى المشركون بحل هذا الشرط وأن يكفيهم النبى صلى الله عليه وسلم نكايته، ويكف عنهم عاديته‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏ما كانوا يؤدونه إلى المشركين عوضًا مما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات فى ذلك الصلح‏)‏ فهو منسوخ عن الشعبى وعطاء ومجاهد‏.‏

ذكر ما فى هذا الحديث من غريب اللغة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏فإذا هم بقترة الجيش‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ القترة والقتر‏:‏ الغبار‏.‏

وقولهم للناقة‏:‏ ‏(‏حل حل‏)‏ يقال‏:‏ حلحلت الإبل‏:‏ إذا قلت لها‏:‏ حل حل‏.‏

زجرتها بذلك‏.‏

والخلأ فى الإبل كالحران فى الخيل، وقد تقدم‏.‏

والقصواء‏:‏ اسم ناقة النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثمد‏:‏ الماء القليل‏.‏

عن صاحب العين والتبرض‏:‏ جمع الماء باليدين‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ ماء برض‏:‏ قليل‏.‏

وتبرض الماء‏:‏ جمع البرض منه ونزحه‏.‏

يقال‏:‏ نزحت البئر‏:‏ نقص ماؤها‏.‏

وبئر نزوح‏:‏ قليلة الماء‏.‏

عن صاحب العين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أعداد مياة الحديبية‏)‏ جمع عد، والعد مجتمع الماء‏.‏

والعوذ‏:‏ النوق الحديثات العهد بالنتاج، واحدتها عائذ‏.‏

و ‏(‏المطافيل‏)‏ التى معها أولادها‏.‏

وماددتهم‏:‏ جعلت بينى وبينهم مدة للصلح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏جمعوا‏)‏ يعنى‏:‏ استراحوا وقووا‏.‏

يقال‏:‏ جم الفرس وأجم، إذا ترك ولم يركب ولم يتعب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى تنفرد سالفتى‏)‏ أى‏:‏ حتى أنفرد فى قتالهم وحدى‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏بلحوا‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ يقال أبلح البعير والدابة بلوحًا‏:‏ إذا أعيا، وبلح الغريم‏:‏ أفلس و ‏(‏الأشواب‏)‏‏:‏ الأخلاط من الناس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يرسف فى قيوده‏)‏ والرسف‏:‏ مشية المقيد‏.‏

والحجل مثله‏.‏

من كتاب العين‏.‏

ويروى‏:‏ يجلجل فى قيوده‏.‏

وقد تقدم فى باب الصلح مع المشركين فى كتاب الصلح‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏ويل أمه مسعر حرب‏)‏ فإعرابه ويل أمه من مسعر حرب فانتصب على التمييز‏.‏

وقالت الخنساء‏:‏ ويلمه مسعر حرب إذا التقى فيها وعليه السليل وقال جماعة من أهل اللغة‏:‏ والمعنى أن الخنساء لم ترد الدعاء بإيقاع الهلكة عليها لكنها أرادت ما من عادة العرب استعماله من نقلها الألفاظ الموضوعة فى بابها إلى غيره، ومرادها بقولها هذا المدح لأمها وأخيها لولادتها مثل أخيها فى بسالته وشجاعته دون الدعاء عليها بالويل الذى معناه الهلكة، كما يقال‏:‏ انج ثكلتك أمك وتربت يدالك، من غير إرادة مقتضى هاتين اللفظتين بالمخاطب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏استمسك بغرزه‏)‏ قال ثابت‏:‏ أى تمسك به واتبعه‏.‏

والغرز لقتب البعير مثل ركاب السرج للدابة‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الْقَرْضِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النبى صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏.‏

قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ‏:‏ إِذَا أَجَّلَهُ فِى الْقَرْضِ جَازَ‏.‏

وهذا خلاف قول أبى حنيفة فإنه يقول‏:‏ إذا كان القرض إلى أجل أو غير أجل فله أن يأخذه متى أحب وكذلك العارية، ولا يلزم عنده تأخير القرض البتة‏.‏

وبنحوه قال الشافعى، ويخالفهم مالك، وقد تقدم هذا مبنيًا لأقوال العلماء فى كتاب الاستقراض والديون فأغنى عن إعادته، والحمد لله‏.‏

باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِى الإقْرَارِ

وَالشُّرُوطِ الَّتِى يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَإِذَا قَالَ‏:‏ مِائَةٌ إِلا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ‏:‏ أَرْحِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ شَرْطًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ إِنَّ رَجُلا بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ إِنْ لَمْ آتِكَ الأرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِى أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ‏)‏‏.‏

الاستثناء على ضربين‏:‏ استثناء القليل من الكثير، وهذا ما لا خلاف فى جوازه بين أهل الفقه واللغة‏:‏ والضرب الثانى‏:‏ استثناء الكثير من القليل وهو جائز عند أصحاب مالك والكوفيين والشافعى وغيرهم من الفقهاء، وهو مذهب اللغويين من أهل الكوفة وأنشد الفراء فى ذلك‏:‏

أدوا التى نقضت تسعين من مائة *** ثم ابعثوا حكمًا بالعدل حكامًا

فاستثنى تسعين من مائة، فكذا إذا أقر الرجل فقال‏:‏ لفلان عندى ألف إلا تسعمائة وخمسين لزمه خمسون‏.‏

أو قال‏:‏ له عندى مائة إلا تسعين‏.‏

فهو جائز على ما أنشد الفراء، واحتج له ابن القصار فقال‏:‏ حجة من أجازه أن حقيقة الاستثناء هو إخراج بعض ما اشتمل عليه اللفظ؛ فإن جميع ما يقتضيه اللفظ ليس بمراد، فإذا كان الاستثناء هذا معناه فقد يكون المراد إخراج الأول، وقد يكون إخراج الأكثر، فإذا جاز إخراج الأقل جاز إخراج الأكثر‏.‏

وقال عبد الملك بن الماجشون‏:‏ لا يجوز استثناء الكثير من القليل‏.‏

وحكى أنه مذهب البصريين من أهل اللغة‏.‏

وإلى هذا ذهب البخارى فى هذا الباب، ولذلك أدخل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدة‏)‏ فاستثنى القليل من الكثير‏.‏

واحتج ابن قتيبة لذلك فقال‏:‏ لا يجوز عندى فى اللغة استثناء الكثير من القليل؛ لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير كأنك أغفلته أو نسيته لقلته، ثم تداركت بالاستثناء، ولأن الشىء قد ينقص نقصانًا يسيرًا فلا يزول عنه اسم الشىء بنقصان القليل، فإذا نقص أكثره زال عنه الاسم، ألا ترى أنك لو قلت‏:‏ صمت هذا الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا‏.‏

أحال لأنه صام يومًا، واليوم لا يسمى شهرًا، ومما يزيد فى وضوح هذا أنه يجوز لك أن تقول‏:‏ صمت الشهر كله إلا يومًا واحدًا‏.‏

فتؤكد الشهر وتستقصى عدده بكل ولا يجوز‏:‏ صمت الشهر كله إلا تسعة وعشرين يومًا‏.‏

وتقول‏:‏ لقيت القوم جميعًا إلا واحدًا أو اثنين‏.‏

ولا تقول‏:‏ القوم جميعًا إلا أكثرهم‏.‏

وأما قول ابن سيرين فيمن قال لكريه‏:‏ ‏(‏أرحل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم‏)‏ فيفسر ذلك أن المكارين لإبلهم فى الأمصار يخرجون الإبل إلى المسارح الخصبة البعيدة، ويبقون فى الأمصار يعقدون الكرى مع الناس ويتعدون على الرحيل يوم كذا، فربما استجلبوا الإبل ذلك اليوم، فيقول التجار‏:‏ لم يتهيأ لنا الخروج اليوم فيشق على الحمالين علف إبلهم فيقول التجار‏:‏ إن لم أرحل معك يوم كذا فلك كذا تعلف به إبلك‏.‏

فهذا شرط لا يجوز فى السنة عند أكثر العلماء، وإنما قضى بذلك شريح؛ لأنه من طريق العدة والتطوع، ومن تطوع بشىء استحب له إنجازه وإنفاذه، إلا أن جمهور الفقهاء لا يقضون بوجوب العدة، وإنما يستحبون الوفاء بها‏.‏

وأما قول الذى ابتاع الطعام‏:‏ ‏(‏إن لم آتك يوم الأربعاء فلا بيع بينى وبينك‏)‏ فذهب شريح إلى أنه إن لم يأت للأجل فلا بيع بينهما، فإن العلماء اختلفوا فى جوازه، فقال ابن الماجشون‏:‏ البيع والشرط جميعًا جائزان وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له ويبطل البيع، ومصيبه قبل ذلك من البائع، كان ذلك بيده أو بيد المبتاع على سنة بيع الخيار، وممن أجاز البيع والشرط فى هذه المسألة‏:‏ الثورى وأحمد وإسحاق‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان الأجل ثلاثة أيام فالبيع جائز‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ يجوز الأجل أربعة أيام وعشرة أيام‏.‏

وقال مالك فى المدونة‏:‏ من باع سلعة وشرط إن لم ينقده المشترى إلى أجل فلا بيع بينهما، فهذا بيع مكروه، فإن وقع ثبت البيع وبطل الشرط، ومصيبة السلعة من البائع حتى يقبضها المشترى‏.‏

ووقع فى بعض النسخ باب ما لا يجوز من الاشتراط والثنيا وهو خطأ، والصواب ما يجوز بإسقاط ‏(‏لا‏)‏ وكذلك فى نسخة النسفى وفى رواية أبى ذر أيضًا‏.‏

وحديث أبى هريرة الذى أدخله البخارى فى هذا الباب يدل على صحة رواية النسفى وأبى ذر، والله الموفق للصواب‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى الْوَقْفِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِى مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنْ شَئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَالَ‏:‏ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لا يُبَاعُ، وَلا يُوهَبُ، وَلا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِى الْفُقَرَاءِ، وَفِى الْقُرْبَى، وَفِى الرِّقَابِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ قَالَ‏:‏ فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَالَ‏:‏ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالا‏.‏

للواقف أن يشترط فى وقفه ما شاء إذا أخرجه من يده إلى متولى النظر فيه، فيجعله فى صنف واحد أو أصناف مختلفة، إن شاء فى الأغنياء أو فى الفقراء، وإن شاء فى الأقارب أو الأباعد، وإن شاء فى إناث بيته دون الذكور، أو الذكور دون الإناث، وإن كان يستحب له التسوية بين بنيه لقوله‏:‏ فتصدق بها عمر فى الفقراء وفى القربى وسائر من ذكر، فدل ذلك إلى اختيار المحبس يضعه حيث شرط‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما تصدق عمر لأنفس ماله؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ فشاور النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك فأشار عليه بتحبيس أصله، والصدقة بثمرته‏.‏

وهذا الحديث أصل فى تحبيس رقاب الأرض‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وكل ما كان نظير الأرض التى حبسها عمر مما يحد بوصف ويوصف بصفة، وله منافع تدرك بالعمارة، والإصلاح ففى حكمها فى جواز تحبيسه، وذلك كالدابة تحبس فى سبيل الله إذا كان ممكنًا صفتها بصفة بيان لها من سائر أملاك المتصدق، ومنفعة تدرك منها لا يبطلها الانتفاع بها كالركوب، والعبد يحبس كذلك وسائر الحيوان والمواشى والرقيق والسلاح يحبس فى سبيل الله وأجزاء القرآن وما أشبه ذلك، وبمثل ذلك عملت الأئمة الراشدون والسلف الصالحون، وسأذكر من خالف ذلك وأرد قوله بأقوال العلماء فى باب الوقف وكيف يكتب بعد هذا إن شاء الله‏.‏